2024 كاذبة... أظنّ أنّها قبل الميلاد وليس بعده، مازالت جميع الظواهر الّتي نشهدها في هذه البلاد تحاول بكلّ طاقتها إيقاف حياة السوريين وقتلها في صفوفٍ طويلة جداً، حتّى أنّها أطول من أعمارهم، صفوفٌ ساكنة منذ 14 عاماً.
إذا جمعت زمن وقوفك على الطوابِير في هذه البلاد، ابتداءً من الوقوف على دور الفرن، وانتظار الأواق الرسمية، مع زمن وقوفك حالياً أمام "الكازيات"، إلِى انتظار وسائل النقل....ستكتشف أنّ ما يقارب ربع عمرك تقضيه وأنت في طابور ما تنتظر "الفرج".
دائماً ما تتفنّن الحكومة في كيفية خلق طوابير جديدة تطبق على صدر المواطن السوري للحصول على مواد التغذية التموينية الأساسية "سكر، رز، وشاي..الخ"، بالإضافة إلى طوابير مواد الوقود الأساسية "المازوت، الغاز، والبنزين"، وأمام كوات تسديد الفواتير تتكدّس الطوابير وتطول، وكلّ فاتورة تحتاج إلى يوم كامل وأحياناً أسبوع من حياة المواطن ليتمكّن من تسديدها.
ربّما تواسيك فكرة أن الطوابير وانتظام النَّاس فيها دليل على المساواة والرّقي والتطّور، لكنك سرعان ما تمحو أفكارك الورديّة بعدما تكتشف أن الطابور بات بمثابة وحدة قياس لأعمارنا، لا يسعنا وصفها إلّا بطوابير القهر والذلّ.
فهذا عاش عشرين طابوراً، وذاك مُعمّر إذ طالت حياته لثمانين طابور، وآخر خُطِفَ خطفاً وهو في طابوره الثامن، فبات الطابور مقياس لأعمار السوريين، إنّها العلاقة العكسية من منظور الرياضيات السورية... كلما كبُر الطابور قلّ العمر.
إن كان الأمر كذلك فعلاً، فالجميع سيفضل الوقوف في أول الصفّ، لتقصير حياته الّتي تعجّ بالألم والمعاناة والسباق مع الزمن في كلّ مرّة.
فعليّاً وبعيداً عن التنظير، إنّ الوقوف في الطابور لا يقصّر الأعمار"فالأعمار بيد الله"، لكنّه يؤخّر الإعمار لأنّ الوقت المهدور بسبب طوابير "الكازيات" وانتظار السرافيس يسلب أثمن ساعات حياة المواطنين، فجميع السوريين يقضون حياتهم تحت جسر الرئيس، وأمام مراكز السورية للتجارة، وغيرها الكثير، بدلاً من قضاء الوقت للنهوض فكريّاً وثقافيّاً واقتصادياً.
حتى طلاب الجامعات والمدارس، لا يملكون وقتاً لذلك، رغم أنّ النهوض والتقدّم يقع على عاتقهم، إلّا أنّهم في غياهب الطرقات ينتظرون "سرفيس" يقلّهم إلى جامعاتهم أو مدارسهم ، إنّها أزمة المواصلات!!
وفي هذه الحالة الطابور حاضراً أيضاً، إلّا أن حضوره هنا مميّز قليلاً، ممزوج بالكدمات والقتال والسباق، وأحياناً الكلمات البذيئة، وفي طابور المواصلات البقاء للأقوى وليس للمنتظر أكثر أو للأشد صبراً، كلّما "طاحشت" أكثر ستنتصر وتصل إلى حيثما تريد.
من جانب آخر، إنّ هذه الطوابير تخلق نوعاً من الحميمية بين المنتظرين، إذ تظهر الحاجة إلى تعبئة الوقت بالأحاديث المختلفة، هنا يمكن أن تسمع أحاديث في السياسة والاجتماع والدين والاقتصاد والثقافة العامة والأمور المنزلية.
وقد يحالفك الحظّ بالاستماع إلى شخص يصف الأدوية أو تتجسّس على جوال الذي بجانبك، تستعرض من خلاله معارف في التكنولوجيا والسيارات أو تبييض الأموال، وعلاقة الدولار بالذهب والنفط، حتى يصل تجسّسك إلى حيثيات العلاقة بين صاحب الجوال وحبيبته، بل وتفرح إذا كانت الأمور على مايرام نيابةً عن صاحب العلاقة الحقيقيّ.
يُقال إنّ البريطانيين أمهر شعوب العالم في تنظيم الدور، لدرجة أن كل بريطاني يمكن أن ينتظم في طابور لوحده منذ أن يولد، ويبدو أن هذه الحرب جعلت السوريين يتجاوزون البريطانيين في هذه القضايا، فالسوريّ في كلّ صباح ينتظم أمام المرآة ليحصي طوابير مشكلاته اليومية قبل أن يقرّر أن ينتظم في "طوابير الإعاشة".
راما علبه