تحت أضواء مسرح الواقع القاسي، ينغمس العالم في حكاية مؤلمة، إنها قصة العنف القائم على النوع الاجتماعي، الوحش الخفي الذي يتسلل إلى أعماق المجتمعات، ينثر الرعب والظلم، يجرح الروح ويكسر الأحلام.
تتراقص الأرقام القاسية في سبيل ترويج قصة البشاعة، ولكن هل الأرقام وحدها كافية لتصوير تلك الكارثة الإنسانية؟ ها هي الأرواح المنكسرة، وجوه النساء المجروحات، وأحلام الفتيات المسلوبة تنادينا من بين صفحات التقارير الباردة، في هذا العالم المليء بالغبار والظلام، يرتفع صوت المرأة المظلومة يتردد في كل زاوية.
يعرف مصطلح العنف المبني على النوع الاجتماعي بأنه "أي عمل مؤذ يرتكب ضد إرادة الشخص ويستند إلى اختلافات منسوبة اجتماعياً (من حيث النوع الاجتماعي) بين الذكور والإناث، تنتهك أفعاله عدداً من حقوق الإنسان، كما يتضمن أفعالاً تلحق الأذى أو الألم الجسدي أو الذهني أو الجنسي، أو التهديد بمثل هذه الأفعال، أو الإكراه أو أي حرمان آخر من الحرية.
انعكاسات مشوهة
عندما نتحدث عن تغطية العنف القائم على النوع الاجتماعي، ندخل إلى عالم معقد وحساس يتضمن مفردات ومسائل تمثل "تابوهات" في المجتمعات، وتتطلب الكشف عن أمور حميمة ومؤلمة.
تغطية هذا الملف تشكل تحدياً، لاسيما في المجتمعات التي تتسم بالتقاليد والأديان القائمة، من السهل علينا أن نتجب الخوض في غمار الحديث عن هذه القضية، لكن عواقب إهمال تناول جوانبها أسوء بكثير، لأن إغفالها سيعزز "ثقافة الحصانة" التي تتيح للجناة الابتعاد عن العقاب والمحاسبة، كما سينعكس هذا التجاهل سلباً على نظرة القضاة والمحلفين للجرائم المرتكبة، ويمنع إدراج الموضوع في الأجندة العامة والسياسية.
وفي عالم مليء بالأساطير والمفاهيم الخاطئة حول ملف قضيتنا، من الضروري أن نكسر القيود التقليدية ونلقي الضوء على الحقائق المؤلمة التي يجب مواجهتها، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن العنف المبني على النوع الاجتماعي ليس مقتصراً على فئة معينة من الأشخاص، إنما يؤثر على جميع الأفراد بغض النظر عن عوامل مثل الطبقة الاجتماعية والعرق والدين والمستوى التعليمي والتاريخ الشخصي.
العنف الجنساني في ظل النزاعات والكوارث
في ظل الأوضاع الإنسانية المأساوية، تتفاقم مخاطر العنف المبني على النوع الاجتماعي بشكل مروع. النساء والفتيات المتأثرات بالأزمات الإنسانية، سواء كانت ناجمة عن الصراعات أو الكوارث الطبيعية، يواجهن تحديات هائلة، تجد نفسها المرأة في حالة تشرد وانفصال عن أسرتها ومجتمعها الداعم، مما يجعلها عرضة للخطر.
وتتعدد المخاطر التي تواجه المتأثرات بالأزمة السورية على وجه التحديد، لكن القضايا مشتركة، حيث تغيب خدمات إغاثة الناجيات في بعض الأماكن، كما قد يرفضن الإبلاغ عن الحوادث بسبب الخوف من وصمة العار والإقصاء الاجتماعي وما يسمى ب"جرائم الشرف" وأشكال الانتقام الأخرى.
وفي حديثنا عن الإقصاء الجندري لابد من الحديث عن الزواج المبكر للفتيات، مُمارسة موجودة في بعض المجتمعات المحلية السورية قبل الحرب، لكن الأزمة أباحت هذه الجريمة، كما أن غياب الأمان الاقتصادي، وتصور أن الزواج سيوفر للفتيات الحماية في بيئة غير مستقرة، والافتقار إلى الفرص البديلة كلها عوامل تساهم في هذه القضية، ولا يمكننا إغفال أن الخوف المتزايد من الاعتداء الجنسي والتحرش يضع المزيد من القيود على النساء.
وعلى الرغم من أن الفقر والصراعات قد يزيدان احتمالية وقوع بعض أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي، إلا أن استعمالهما كمبرر هو أمر غير مقبول، إذ يجب أن نتذكر أن العنف ينشأ من هياكل السلطة والتمييز والتفاوت الاجتماعي، وأنه يحدث في جميع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
بعد صدمة الاغتصاب:
للعنف المبني على النوع الاجتماعي عواقب خطيرة، تشمل عواقب صحية كحالات حمل غير مرغوب فيها، وتعقيدات ناتجة عن عمليات إجهاض غير آمنة، وأمراضاً معدية منقولة عن طريق الجنس.
كما تترتب على جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي تداعيات نفسية واجتماعية كارثية على الضحايا، يصبح الناجون من هذه الجرائم عرضة للاكتئاب، واضطرابات القلق، والشعور بالذنب والعار.
إذا ما أردنا الحديث عن العواقب المجتمعية فالوصمة الاجتماعية تطال الناجيين، ولكن الخطير هنا أن تبعات هذه الجريمة لا تقف عند هذا الحد بل تمتد لتصل للعزلة والنبذ الاجتماعي، وفقدان القدرة على التعامل مع العائلة والمجتمع، الأمر الذي قد ينتهي بالانتحار.
وعن الحلول البناءة لمواجهة التبعات النفسية والاجتماعية لقضايا الاغتصاب والتحرش الجنسي، من المهم تقديم الدعم المجتمعي والنفسي وتمكين الأنظمة الاقتصادية، كما التوقف عن لوم الناجيين، يمكن أن ننسى أحياناً أن الكلمات والعبارات التي نستخدمها كل يوم ترسم واقعنا، لاسيما أن المعتقدات المؤيدة للاغتصاب مدمجة في حديثنا كعبارات مثل "ربما ملابسها كانب السبب"، أو "كانت ترغب في ذلك".
بمقدورنا التخلي عن اللغة والأغاني التي تلقي اللوم على الضحايا، وتستهدف الناجيين وتلتمس الأعذار للتحرش والاغتصاب، إن ما يرتديه الناجون، والمكان الذي كانوا فيه في وقت معين ليس دعوة للاغتصاب.
لأنه طالما اتخذت ثقافة الاغتصاب أشكالاً عديدة تختلف حسب السياقات والوقت، ولكنه من المهم أن ندرك أن ثقافة الاغتصاب تتجاوز المفهوم الضيق لمجرد رجل يعتدي على امرأة وهي تمشي بمفردها في الليل.
واقع جارح لغياب المساءلة:
تحت عنوان "غياب المساءلة" الحقيقة المرة للقوانين الجنائية في سورية، نجد أن الوضع القانوني يظهر ثغرات كبيرة في مجال المساءلة عن جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي، بينما يشتهر القانون الجنائي السوري بقوانينه الصارمة، إلا أن هناك جوانب محددة تثير القلق وتثير تساؤلات حول حقوق الناجيين والعدالة.
من بين هذه الثغرات، يبرز عدم تجريم الاغتصاب الزوجي على وجه التحديد، فعلى الرغم من أن الاغتصاب يُعتبر جريمة خطيرة في القانون، إلا أنه لا يُعاقَب الزوج على اغتصاب زوجته، هذا النقص في القانون يؤدي إلى استباحة حقوق المرأة واستمرار تعرضها للعنف الجنسي داخل الزواج.
بالإضافة إلى ذلك، يفتقر المشرع السوري إلى تعريف واضح لجريمة التحرش الجنسي، حيث لا توجد جريمة محددة له في قوانين العقوبات أو العمل. ومع ذلك، فإن القانون ينص على معاقبة "السلوك الإجرامي الاعتداء الخادش للحياء". إلا أن هذا التحديد الضبابي للتحرش الجنسي يجعل من الصعب تحقيق العدالة لضحايا هذه الجرائم ويترك المجال مفتوحًا للتفسيرات المتنازع عليها وتفادي المساءلة.
وفي محاولة لتعزيز "المحاسبة"، تسمح بعض المواد في قوانين العقوبات بتخفيض عقوبة المغتصب والمرتكبين لبعض الجرائم الأخرى إذا تزوجوا من الضحية، هذا الأمر يثير تساؤلات حول تقدير النظام القانوني لقيمة حياة وكرامة الضحية وتأكيد حقوقها، حيث يمكن للمغتصب أن يتلاعب بالقانون ويهرب من العقاب من خلال الزواج.
كثقافة مجتمعية:
تحيط ثقافة العنف القائم على النوع الاجتماعي بنا، ونجد جذوراً لها في تفكيرنا وحديثنا، في حين أنه قد تختلف السياقات، إلا أن دائماً ما تكون هذه الثقافة جذور في مبادئ السلطة والسيطرة، كما تعكس بشكل كبير صورة المجتمع وتؤثر على سلوكياته وتصوراته حول الجندر والعلاقات الإنسانية.
بينما نستكشف تحديات مكافحته، يجب علينا أن نتعامل مع هذا الموضوع بجدية وتوجه مكرس للتغيير، أن نتجنب الاستخفاف والبُعد الساخر الذي قد يُظهر هذه الجرائم بشكل غير ملائم، فعبارات المزاح أو النكت الهزلية التي تتعامل بطريقة خفيفة مع الاغتصاب تقود الحاجة الملحة لتعزيز الوعي وتغيير الثقافة المترسخة، إذ اننا عندما ننظر إلى هذه القضية كقضية ثقافية، يتم التأكيد على أهمية تغيير المفاهيم القائمة حول العلاقات الجنسية والموافقة المتبادلة، وأن يعلم الناس أن القوة الجنسية القسرية أمر غير مقبول وأنه يجب على الأفراد أن يحترموا حقوق الآخرين وخصوصيتهم .
والاعتداءات هذه ليست أبداً موضوع نكتة للضحك، فنكات الاغتصاب تمحو مشروعية مطالبة الناجين من العنف الجنسي بحقهم، مما يجعل من الصعب عليهم التحدث الفكاهة التي تطبع وتبرر العنف الجنسي غير مقبولة.
فلنصغِ إلى صرخات الصمت، ولنُسمع أنين القلوب المكسورة، ففي ذلك الاستماع ستتجلى الحقيقة القاسية وراء الإحصاءات، ومن خلال إنصاتنا، سنجد في أعماقنا نيران الغضب تشتعل، لنقف معاً في وجه هذا الوحش المقنع، ولنُلقِ نور العدالة على أرواح تحتاج للشفاء والحب.
مادة: هديل حسام الدين