مع مطلع كلّ فجر تتكاثر أعداد المتسولين أمام أعين الجهات المعنية، ورغم إدراك مدى خطورة واستفحال هذه الظاهرة، لكن كلّ ذلك لم يشفع لهذا الملف الخطر أن يؤخذ على محمل الجد وينال ما يستحقه من اهتمام ومتابعة.
ما عليك إلّا أن تسرق من وقتك يوماً كاملاً تمشط فيه بعض طرقات العاصمة دمشق، فحيثما أدرت وجهك تجدّ الأطفال والنساء يفترشون الطرقات والأزقة في سبيل تحصيل "الرزق"، يتكاثرون كفايروس يعجز العالم عن ردعه، مصدّرين أسوء الصور غير الحضارية عن البلد، وما بين الحاجة والامتهان تضيع الحقائق...إنه التسوّل الّذي ينخر شوارع دمشق.
مهنة قائمة بحدّ ذاتها.. ولديها أدوات
تحاول هذا الظاهرة أن تخرط نفسها ضمن قائمة المهن، مبتكرة في سبيل ذلك أحدث الأدوات والتقنيات، فتشعر إزاء ممارسيها بالرأفة، ولايسعك إلّا أن تتأثر بأحوالهم المؤلمة والمحزنة الّتي يصدرونها لك.
تحت عنوان "التسوّل الصامت"، هنا لا يسأل المتسول المال، ولا ينطق بالمقولات المشهورة للتسول "من مال الله يا محسنين"، بل يكتفي بافتراش الطريق أو الحدائق والأرصفة والنوم على قطعة من الكرتون أو يفرش الطريق أمامه بعلب المناديل المتبعثرة والمتناثرة من كلّ صوب وحدب، ويجلس أمامها واضعاً يده على رأسه بكلّ حزن وأسى، أو يجلسون بجانب حاويات القمامة وسط صمت قاتل، وعيونهم هي التي تتحدث فقط، وذلك كجزءٍ من مشاهدهم التراجيديّة.
ولعلّ أفظع أداة يستخدمها التسوّل في الآونة الأخيرة هي الرّضع، في مشهد أشدّ إيلاماً بين كلّ الطرق والمسارات الّتي تسلكها هذه الظاهرة، فتنتشر العديد من النساء اللواتي يعرضن طفلهم الرضيع أمام جميع العابرين، في سبيل تحصيل المال.
وانتشرت مؤخراً اللوحات الّتي ترافقهم أثناء جلوسهم في الطرقات، تتضمن هذه اللوحات معلومات عن الشخص وحالته ،وكم ولد لديه، ومعلومات تثير المشاعر وتشحذ الشفقة، إضافةً لجمل الترجيّ من أجل مدّ يد العون، كجزءٍ من أدواتهم التسويقيّة والترويجيّة.
وأثناء تجوّلنا في باب توما، رصدنا مسنّاً يقف على رجليه بعد أن كان يتجول على الكرسي المتحرك، ليتابع طريقه مشياً على الأقدام وهو يتلفت حوله خشيةً من أن يراه أحداً بأنه سليم وليس معوّقاً، وغيره الكثيرين الذين يتظاهرون بفقدان البصر أو العجز.
"شحدني غصباً عنك"
أصبحت التصرفات غير المقبولة والتي يقدم عليها بعض المتسولين في الشوارع والطرقات تثير سخط وغضب المواطن، حيث يتحول المتسوّل الوديع والهادئ والذي لا يكفّ عن الدعاء لك بأيدي مبسوطة محاولاً استعطافك وجرّك لإفراغ محتوى حقيبة نقودك، إلى وحش مفترّس كاسر يمطر بوابل من المسبات والشتائم، بل في حال رفضك إعانته ينقلب ضدك وقد يصل به الأمر إلى التطاول عليك وشدّ ملابسك.
واعتبر المواطنون أنّ المتسولات هن أكثر ميلاً للعدوانية والشتائم مقارنةً بالرجال الذين يكتفون بطلب المساعدة وإرسال بعض الدعوات.
أمّا الأطفال فقد يلجؤون إلى شد الملابس إن امتنعت عن المساعدة، وملاحقتك ومحاولة قطع طريقك، مستخدمين أسلوب الترجيّ والإصرار.
وما يزيد الطين بلله، عندما تعطي طفلاً، ينهال عليك مجموعة كاملة من بقية الأطفال، من أين أتوا لا تعلم، فيحاصرونك طالبين منك مثلما أعطيت زميلهم، وإن لم تستجب ينهالون عليك بالشتائم، إضافةً لضرب وملاحقة زميلهم باعتباره من وجهة نظرهم قاطعاً للأرزاق.
وما عليك عزيزي المواطن سوى أن تعطيهم برضاك أو غصباً عنك، أو تمانع إن استطعت تحمل "النق"، وتفلت من شدّ الملابس، وفي أحيان كثيرة تتلقى الدعاء عليك والشتائم التي تُسمع ولا تُسمع.
من الشوارع إلى الإنترنت
وصلت هذه الظاهرة إلى الفضاء العام العلنيّ، ولم تعد محصورة بمواقف الإشارات وناصيات الطرق، وذلك في سيناريو بتفاصيل مكرّرة لكنّ أبطاله جدد، إنّه التسوّل الإلكتروني عبر الاستجداء على صفحات التواصل الاجتماعي.
حيث أنه بشكل شبه يومي تصل رسائل من حسابات بأسماء وهميّة تقوم على نشر قصص لاستعطاف أعضاء المجموعات خصوصاً على الفيسبوك، من أجل الحصول على مساعدات مالية.
فذاك من يريد "لابتوب"، وتلك تريد فستان زفاف، وأخرى تريد "مكياجات"، وآخرون يشتهون تناول الطعام في مطعم فاخر.
وحين يلقوا الاستجابة ويتواصل معهم أحد من اجل تسديد رسوم معينة، يطلبون المال "كاش"، مع اختفاء الحساب الناشر فيما بعد، الذي هو أساساً قد يكون باسم وهميّ، او عضوّ مجهول الهوية في المجموعات.
مخلّفات الحرب الشعواء
تفاقمت ظاهرة التسول في المجتمع السوري كآفة اجتماعية مع الأزمة وباتت تنتشر بكثرة، أثناء الحرب على سورية وما بعد الحرب، لتتنامى بشكل كبير بسبب الفقر وغلاء المعيشة وتراجع صرف الليرة السورية مقابل صرف العملة الأجنبية، وما رافق ذلك من تدني مستوى الدخل ورواتب الموظفين، فضلاً عن قلة فرص العمل، خاصة بالنسبة للنساء غير الحاصلات على شهادة جامعية أو خبرة عملية في مجال ما.
فحسب دراسة "المركز السوري لبحوث السياسات"، إن أكثر من 93% من السوريين يعيشون في حالة فقر وحرمان، بينهم نحو 60% في حالة فقرٍ مدقع، وهذا يشكل كارثة للأمن الغذائي للسوريين.
ومن جهةٍ أخرى، فاقمت حركات النزوح الشديدة التي شهدتها العديد من المحافظات الساخنة إلى العاصمة وغيرها من المحافظات من هذه الظاهرة.
كما، واندفعت بعض العصابات والمافيات لاستغلال عدد كبير من النساء والأطفال الذين ليس لديهم معيل أو مسؤول، عبر تشغيلهم في مهنة التسول، مقابل إعطائهم مبالغ ضئيلة جداً وتأمين طعامهم وإقامتهم.
فتجد "شيخ الكار" الّذي يملي ملاحظاته على هؤلاء المتسولين، يوّزع كلّ منهم في منطقة معينة، لأن في كل منطقة يكون هناك "بلطجي" يقف وراء صرف هؤلاء المتسولين معلناً انتهاء عملهم لليوم، ويحصل منهم على جزء كبير من "إيراد" التسول اليومي.
وقد سبق أن نشرت صحيفة سورية إحصائية من الدراسات الاجتماعية، قدرت خلالها عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51.1 في المائة منهم إناث، و49.9 في المائة ذكو، كما أن 4.64 في المائة منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10 في المائة من العدد الإجمالي، أي حوالي 25 ألف طفل.
راما علبه