في ظل الأزمة الإنسانية والهجرة الناجمة عن الحرب السورية، انبثقت ظاهرة فريدة تجمع بين الحب والشجب، وهي "الزواج على سفر"، ليست مجرد تحدٍ للحدود الجغرافية، بل تحدٍ للظروف القاسية والمِحن التي يواجهها السكان في زمن الصراع.
على مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت سورية تغيرات جذرية في نسيجها الاجتماعي، حيث أصبح البعض يلجأ إلى الزواج على سفر كوسيلة للبقاء مع من يحب في زمن الفوضى، يجمع هؤلاء الأزواج بين حقيقتين مؤلمتين: الابتعاد عن الحرب والسعي لبناء حياة جديدة معاً.
فرضت موجات اللجوء الجماعي إلى أوروبا منذ 2015 هذا النوع من الزيجات على المجتمع السوري، مجبرةً الآلاف على البحث عن شريك المستقبل من خلال شاشات الهواتف.
لكن هل هو مجرد نتاج للظروف الصعبة، أم هو تعبير عن تحدٍ للظروف؟ يكمن الجواب في قصص الأفراد الذين انخرطوا في هذا النوع من الزواج. قد تكون قصصهم معقدة ومؤلمة، ولكنها تلقي الضوء على الروابط الإنسانية القوية والتحديات التي يواجهونها.
من خلال رحلة تأمل في تاريخ الزواج على سفر في سورية، نكشف عن مفارقات هذه الظاهرة وتداينها مع الحروب والهجرة، إنها قصة البحث عن الأمان والحب في وقت غير مأمون، وكيف يتحد الأفراد لبناء مستقبل أفضل رغم الظروف القاسية.
زيجات اليأس
تتحول زيجات "لم الشمل" إلى خيار شبه وحيد أمام الكثير من الفتيات السوريات لتجنب مصير "العنوسة" والفقر، من خلال الارتباط بشريك يقيم بالخارج ويسعى لاستقدامها.
فوسط اليأس والرغبات المكبوتة بالهجرة، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى سوق للزيجات الافتراضية، إذ ظهرت مجموعات متخصصة بربط العزّاب والعزباوات عبر الإنترنت، في لقاءات تفتقد أدنى مقومات الحبّ والانسجام، لتنشأ قصص حب مصطنعة غايتها النهائية هي الحصول على تأشيرة للخروج من الجحيم.
وراء كل إعلان عن "زواج افتراضي" قصّة حزينة من اليأس والرغبة الملحّة في الهروب من جحيم الحرب ومآسيها.. فهل
ستنجح هذه "الأحلام المهاجرة" في تخطي الحدود والوصول إلى بر الأمان؟
قناعة «لا تزوج بنتك لشاب يسافر».. تغيرت!
تدفع الحرب الّتي طال أمدها المزيد من الفتيات للمجازفة بمستقبلهن من أجل الهروب من جحيم الواقع، عبر "زواج اليأس" الذي يقدم وعداً زائفاً بحياة أفضل خارج البلاد.
فسطوة الفقر وتدني مستوى المعيشة وتفشي البطالة وهجرة شباب الوطن، دفع الملايين من الفتيات للرضوخ لهذه الزيجات الافتراضية مع شركاء في المهجر، رغبةً منهنّ بالهروب أو دعم ذويهنّ.
ناهيك عن رغبة الأنثى في تأسيس حياتها بمكان يحترم إنسانيتها وحقوقها، لذا تجد في خيار "زواج السفر" فرصة للهجرة النظامية إلى بلد يمكّنها من العمل بمقابل مادي مجدٍ تستطيع من خلاله دعم والديها المتقاعدين في سورية.
لكنّ وراء وعود السفر والرخاء، تنتظر الكثيرات مفاجآت مُرة. فهل تستحق المجازفة بالمستقبل ثمناً للهروب من كابوس الحاضر؟
سوق عروسات سوريات
تنتشر على منصات التواصل مئات الصفحات والمجموعات التي تعرض "سلعة" غريبة.. عروسات سوريات بأسعار مغرية!، وهي ليست بظاهرة جديدة، بل أصبحت اعتيادية منذ بدأ موجة الهجرة في بداية الحرب على سورية.
فوسط الحرب الطاحنة، تُعرض الفتيات كبضاعة رخيصة، مدرجة بكل بشاعة تفاصيل أعمارهن ومؤهلاتهن وصفاتهن الخلقية، ليختارها الرجال المقيمون بالخارج كشريكات بغرض الهجرة.
لكن "الأسواق" هذه تُحول مشروع بناء الأسر إلى مجرد سلعة، فيما تفتت هذه الظاهرة المنتشرة المجتمع وتدمر قيمه، وتسفر عن مآسٍ اجتماعية ونفسية كبرى.
فهل يعي الشباب حجم المخاطرة بمستقبلهم ومستقبل مجتمعهم ثمناً لتحقيق الأحلام الكاذبة؟
رحلة الحب والتحديات
عندما تختار الفتيات الهجرة ولم الشمل في بلاد جديدة، تتكامل قصصهن مع تحديات نفسية واجتماعية، إذ لا تكون قيمة القانون هي العامل الوحيد، في بعض الأحيان، تكون بلا حقوق في حال عدم التوافق، مما يجعلها تواجه واقعاً صعباً.
وفي ذات الوقت، يقدم الشباب أحياناً صورة غير دقيقة عن أوضاعهم، خاصة فيما يتعلق بالزواج من الفتيات في سورية، فيما تجد الأخيرة نفسها مضطرة للقبول بهذه الفرصة للزواج والهجرة كوسيلة للتخلص من الوضع الاقتصادي الصعب.
تظهر الآثار النفسية بشكل رئيسي بعد الزواج، حيث أن التواصل عن بُعد لا يوفر صورة كاملة عن أخلاق الشريك، ما يزيد احتمالية وقوع الخلافات العائلية.
فيما يتعلق بوضع الفتاة، تجد نفسها في بلد غريب، ضعيفة ومعزولة، غالباً ما تحمل أعباء كثيرة بسبب عدم معرفتها بالقوانين واللغة المحلية، وهنا تظهر الآثار النفسية بشكل ملحوظ.
يبقى نجاح أو فشل هذا الزواج راهناً بتفاصيل كل تجربة على حدة، حيث تستمر حياة الزوجين في التحول وفقًا لظروفهم الفريدة.
شحن من سورية للخارج
معظم الشبان في الخارج يرفضون فكرة الارتباط بفتاة من خلفية أوروبية أو غربية، ويعزوه الاختلاف في التفكير والبيئة والعقلية، وهي أمور يُعتقد أنها كفيلة بانتهاء أيّ تجربة زواج محتملة بالفشل، كما يعتبرون أنّ "الأطفال وتربيتهم ستكون أكبر عقبة، كون الطفل سيكون تائهاً في تحديد هويته الاجتماعية والثقافية، والتي ستتوزع بين هوية الأب وهوية الأم.
وتنبع هذه المخاوف من كون طبيعة المجتمع السوري تميل إلى ما يمكن تسميته بزواج البيئة الواحدة.
فيما يرفض آخرون الزواج من السوريات في الخارج أساسأ، خوفاً على ذكوريتهم، فالفتاة في الدول الغربية تدرك تماماً حقوقها وصلاحياتها، حققت بشكل أو بآخر استقلاليتها، وهو أمر مقلق للشرقي.
لذا يعتمد البعض مبدأ شحن "البضاعة" - على اعتبار أصبح الزواج بهذا الشكل "تجارة" - من سورية ولأي دولة في العالم، فهو زواج قائم على شرقي منقذ، وضحية سورية.
"نقي وستحلي"
وبالمقابل يعتمد بعض الشباب المغتربين في هذا الزواج على مبدأ "شروة وبيعة" إذ أنه قد يكون غير متعلم، وذا فكر بدائي، بل ومن الممكن ان يكون عائلاً على "الجوب سنتر" و"عايش على مساعدات الدولة المضيفة"، لكنه يسير متبختراً معتقداً أن رأس ماله "عيشته في دولة أوروبية"، لذا يتشرط على عروسه المستقبلية بشروط تكاد تكون أسطورية، إذ يكفي "أنو طالعها من سورية".
ليبدأ بعدها بإملائاته، عن شخصيتها، ملابسها، قيمها ومبادئها، وحتى طريقة تفكيرها، لتغدو كاللعبة، يتحكم بها، ويصنع تفاصيلها وفقاً لما يتلائم مع رغباته.
رقصة التعارف الرقمي
في عصر التكنولوجيا والوسائل الاجتماعية، أصبح البحث عن الحب يشبه مغامرة سفر في عوالم افتراضية، يتلاعب بعض الشبان بأفكار التعارف عبر وسائل التواصل الاجتماعي كمفتاح للخروج من غربتهم وحالة الوحدة المتراكمة في بلاد الاغتراب، حتى أدمنها. لكن هل هذا الطريق الافتراضي يقدم الحلاوة المتوقعة أم يكمن فيه ما هو أعقد وأكثر تشويقاً؟
بعضهم يتقن فنون التعارف الرقمي ببراعة، ولكن وسط الوعود اللامنتهية والخيوط المتشابكة للحب الافتراضي، يتخذون شخصيات مختلفة ليظهروا بصورة المنقذ الحقيقي، وفي مقلب آخر تجد الفتيات أنفسهن محاصرات في شبكة من الأحلام المزيفة، حيث يظهر الشاب كالفارس المخلص الذي يعيدهن إلى حياة السعادة ويقودهن إلى مستقبل مشرق.
وكما في قصص علاء الدين، يتقاطع عوالم الواقع والأحلام، ولكن هل يكون الأمير الساحر حقيقياً أم مجرد إلهام عابر للشوق؟ يندمج التعارف الرقمي مع الأمل والخيبة في مشهد درامي يكشف عن تناقضات البحث عن الحب في عصر الرقمنة.
هكذا، يتجلى الحب في أوجه غير متوقعة، وربما يكون الواقع الرقمي هو المسرح الذي يكشف عن جوانب مختلفة من الإنسانية، حيث يرقص الشباب بين أحلامهم وواقعهم الافتراضي.
جرس إنذار .. بين قصور الأوهام وحقائق اللقاء
في رقصة متقنة على وتيرة جرس الإنذار، يتشكل زواج سفر عن طريق لم الشمل كمسرح للخيال والوهم. هنا، يقيم الشريكان قصوراً فارهة من الخيلات والأوهام، حيث يتيح لكل منهما الفرصة لنحت صورة مثالية للآخر.
يُصبح الزواج في هذا السياق مكاناً للتأليف والتألق، حيث يبني كل طرف سوراً من الكذب ليظهر بأبهى حلة، ولكن هل يمكن للواقع أن يحين موعد اللقاء دون أن تتبدد وهمية الصورة؟
الشاب الباحث عن ربة منزل يُلقي بعقده النفسية في فخ الوهم، يقدم صورة لا تمت للواقع بصلة، يستغل كل ذريعة ليوهم بأنه خارج عن إطار التقاليد، ولكن هل تظل "الكليشيه" المعتادة حاكمة لحظة اللقاء؟
من ناحية أخرى، تهرب الفتيات من أوطانهن المغلقة، تاركات وراءهن القيود والتقاليد، ينظرن إلى السفر بمثابة نافذة نحو حرية مفرطة. ولكن هل يمكن أن يكون هذا الهروب هو سبيل لفقدان الذات؟
هكذا، تتناوب القصص في هذا الفضاء الوردي بين الأوهام والواقع، حيث يتجلى الزواج عن طريق لم الشمل كلوحة فنية معقدة تتناول قضايا الحرية والهروب من التقاليد بطريقة جديدة ومثيرة.
هجرة.. فزواج.. فطلاق
في قلب المشهد الاجتماعي للمجتمع السوري في أوروبا يتسارع إيقاع الحياة الزوجية، ومعها تظهر تحديات ترتبط بارتفاع معدلات الطلاق، يشعر الشبان بالقلق إزاء نجاح تجربة الزواج، خاصةً بعدما أظهرت الإحصائيات ارتفاعاً في حالات الطلاق، والتي غالباً ما كانت لأشخاص تزوجوا حديثاً عبر لمّ الشمل.
تصطدم الفتيات القادمات من خارج الاتحاد الأوروبي بواقع مختلف عن الصورة الوردية التي قدمتها لهن وسائل التواصل الاجتماعي. فبدلاً من حياة اجتماعية نابضة، يواجهن تحديات حياتية في ظل انعدام التفاعل الاجتماعي والتحول إلى نظام يعتمد بشكل كبير على العمل. تتحول حالة الأمل إلى خيبة أمل، ويتشكل مفهوم الزواج بشكل مختلف، مما يدفع البعض إلى رفض استمرار العلاقة الزوجية.
وفي هذا السياق، تظهر خلافات زوجية تبدأ بتوقعات مختلفة حيال الحياة الزوجية. بعض النساء ينظرن إلى الزواج كفرصة لتحسين ظروفهن، ولكن عندما يصطدمن بالواقع المعاش، ينشأ الخيبة والرغبة في الانفصال، ناهيك عن قلة التفاهم الحاصلة بين شريكين لم تتعدى حدود تعارفهم محادة مسنجر أو واتساب يومية.
مقالة: هديل حسام الدين