فتاة بين الشك واليقين:
سُئلت من قِبَل جواد إن كنت مرتبطة، شعرت بموجة من الخوف والقلق تتسلل إلى قلبي بمجرد سماع سؤاله، لا أعلم لما، فأنا على الدوام كنت أدافع بشغف عن فكرة الدخول في علاقة، لكن عندما واجهتني هذه الحقيقة على أرض الواقع، تراءت لي مخاوف كنت أحاول طمسها دائماً.
تذكرت حينها شريط الأحداث المتكرر في كثير من العلاقات، بداية حلوة وحالمة، ثم انهيار دراماتيكي ومؤلم في النهاية. كغيري من الفتيات، شعرت بخوف لا أستطيع تفسيره من الارتباط.
لم أكن أتوقع أن أفكر بهذه الطريقة المتشائمة، خصوصاً مع شخص بدا مثل جواد يشاطرني قيمي وتصوري للعلاقة المثالية، لكن ربما تلك هي نظرة معظم الفتيات المترددات تجاه الارتباط.
على أية حال، تجاوزت مخاوفي تلك وأجبت جواد بثقة تامة: "لا، ماني مرتبطة"، شعرت بارتياح داخلي عندما علم بذلك وكأنها إشارة بأنني جاهزة للانخراط في علاقة جديدة. وبمثابة توافق ضمني يمكن أن يتحقق بيننا.
تنهدت بسعادة بعد وداعه، وشعرت براحة كبيرة بسبب جوابه الأخير على سؤالي، مصارحتنا حول وضعنا العاطفي مثلت الخطوة الأولى والمهمة في بداية تعارفنا الحقيقي، وأخيراً وجدت شخصاً يشاطرني نفس التصورات حول الارتباط، يرغب في علاقة حقيقية وتأسيس أسرة، كنت قلقة جداً عندما طُرح الموضوع في الدرس! ولكن جواد أثبت أنه على نفس الموجة معي.
بدأت أحلم بكيفية سير العلاقة بيننا، كنا نضحك ونمزح ونثرثر للغاية خلال عودتنا، وشعرت براحة كبيرة بوجوده، يبدو أنه سيقبل استقلاليتي وعملي دون أي مشكلة، أتساءل إن كان سيحترم أيضاً شغفي ورغبتي في المغامرة وأن أظهر حقيقتي أمامه.
لا شك في أن هناك الكثير لنعرفه عن بعضنا، ولكنني أشعر بحماس كبير للمضي قدماً معه. ربما هو الرجل الذي طالما بحثت عنه! على الأقل، قد تجاوزنا العقبة الأولى بنجاح، كلانا عازبان ومستعدان للارتباط.
في اليوم الذي تلى موعد حصتنا، كنت أسير بصحبة صديقتي راما في شوارع حي باب توما القديمة، نتجول بين المحلات والمقاهي الشعبية.
وفجأة، لاح أمامي شخص أعرفه، لم يكن غير جواد وصديقته ينتظران طلباً من إحدى محلات المعجنات، تبادلنا التحيات بحرارة.
في لحظة غياب جواد لاستلام الطلب، نظرت نحو الفتاة بريبة وسألتها بخبث "أنت رهف صح؟" متوقعة أن تكون المتصلة ليلة أمس.
أجابتني بسرعة "لا اسمي نور"، عاد جواد في تلك اللحظة ودعانا لمرافقتهما إلى إحدى المقاهي القريبة. كنت مترددة في البداية، لكن إصراره الودي جعلني أقبل في النهاية.
وبينما كنا نسير باتجاه "قهوة على المفرق"، كنت شاردة الذهن تائهة بين أفكاري. ما هي علاقة هذه الفتاة بجواد؟ شعرت بحيرة وقلق يتسللان إلى قلبي. ربما حبيبته؟ لا لا، لقد أكد لي أنه غير مرتبط. أين تكمن الحقيقة إذن؟
تململت طوال جلستنا في المقهى، غير قادرة على الاسترخاء والتمتع بالأجواء المحيطة. كل أفكاري كانت منصبة على فك لغز العلاقة تلك، حيث التبس علي الأمر بشأن علاقة نور بجواد. لكن سرعان ما اختفت مخاوفي عندما عرفني عليها بلطف قائلاً: "هي نور، زميلتي بالشغل، واجتمعنا اليوم لنشتغل على مشروع مشترك"
شعرت براحة كبيرة عندما أدركت أنها ليست أكثر من زميلة عمل له، كأن بارقة أمل قد أضاءت قلبي من جديد.
بدأنا الحديث عن أعمالنا، أخبرني أنه "غرافيك ديزاينر" يعمل في شركة إعلانات كبرى، وبحماس ملحوظ، أطلعني على بعض تصاميمه الأخيرة. كانت رائعة ومبهرة بالفعل.
طوال جلستنا في المقهى، كنت منشغلة تماماً بمحادثتي معه، لدرجة أنني تجاهلت وجود نور وراما معنا. كأننا كنا في عالم خاص بنا، لا شيء آخر كان يهم.
تبادلنا أطراف الحديث بسلاسة، وأنا أُصغي له بانتباه شديد، حدثني بحماس عن موهبة الرسم التي يمتلكها، وعلى الرغم من أنني كنت أعرف عنها مسبقاً، نتيجة مراقبتي لحسابه على فيسبوك، إلا أنني قررت أن أظهر بمظهر المتفاجئة واصطنع الدهشة.
وبشغف قلت: "اااه عنجد، كتير حلو والله، فرجيني شي من رسماتك"
ابتسم وبدأ ينقر على هاتفه ليعرض عليّ بعض لوحاته، كانت رسوماته حقاً رائعة، أعربت عن إعجابي وأنا أستمتع بالنظر إلى فنه الذي حمل لمسات مميزة، هل هي هكذا فعلاً أم أن إعجابي به جعلني أرى كل ما يتعلق به عجيباً؟.
قاطع عرضه انسجامي، "بتسمحيلي أرسمك؟" بحماسة أجبته "أكيد بتمنى"، أكد لي أن اللوحة ستكون مميزة، قلت له "أكيد لأنك أنت يلي راسمها"، هز رأسه نافياً: "ما دخلني أنا، اللوحة رح تكون حلوة ومميزة لأنو فيها تفاصيلك، لأنك حلوة وبس ...".
في تلك اللحظات، كأن العالم كله قد اختفى حولنا. لم أعد قادرة على سماع أصوات المحادثات المحيطة أو ضجيج المقهى. كل تركيزي كان على جواد وكلماته الساحرة.
انغمسنا في حديث عميق عن الفن ومعاني الحياة وغيرها، وددت لو استمر ذلك النقاش إلى الأبد. لقد بدا وكأن هناك تناغماً فريداً بيني وبينه، أو على الأقل أنا شعرت بذلك.
في بعض الأحيان، كان يلقي بنكاته الظريفة فأضحك بصوت عالٍ، وبجهارة، شعرت براحة تامة للظهور بحقيقتي أمامه دون رياء.
أكثر ما شدني إليه أنه مستمع جيد يشجعني على الاستمرار عندما أتحدث. أعجبني ذلك فيه، إذ غالباً ما أشعر بأن الرجال لا يصغون جيداً لأحاديثنا.
قبل أن نغادر المقهى، اقترح علينا التقاط بعض الصور التذكارية، ابتسمت بسعادة وأنا أتأمل عدسة الكاميرا، فلست غريبة على التقاط الصور الجماعية مع أصدقائي لكن هذه المرة كانت مختلفة، شعرت براحة عندما وقف جانبي.
بعد أن أخذنا عدداً من الصور، طلب مني أي أعطيه اسم حسابي على الفيسبوك، ليشارك صورنا على خاصية "الستوري"، رحبت بفكرته تلك وأعطيته اسم حسابي، ابتسم وهو ينقر على شاشة هاتفه، وعلى الفور، أرسل لي طلب صداقة.
وبينما كنت أسير عائدة إلى المنزل تحت أضواء المدينة الساطعة، لا أستطيع إلا التفكير في ما سيحمله لنا المستقبل، سألتني راما عن حقيقة علاقتي بجواد وعن مشاعري تجاهه، ابتسمت لها فقط، مترددة في الإجابة، أنا نفسي غير متأكدة بعد.
بعد لحظات، اهتز هاتفي بإشعار جديد. فتحته لأجد صورتنا الأولى قد تم نشرها على "الستوري" الخاص به، كنا نبدو لطيفين معاً، يمكنني أن أرى البهجة تشع من عينينا، وكأننا كنا نعلن بطريقة رسمية أننا قد أصبحنا الآن جزءاً من دائرة بعضنا البعض.
راقبت بتشوق بينما نشر صوراً تلو الأخرى، ضاحكين ومبتسمين في جميعها. أحببت كيف أن صورنا معاً بدت طبيعية وراضية للغاية. كأننا كنا مخلوقين لنكون إلى جانب بعضنا البعض...
رجل تحت سحر الموسيقى:
في المناسبة وخلال أيامنا السابقة لم يتثنى لي ذكر اسمها، هذا لأن عواطفي كانت تسبقني لوصف حالتي وحالتها، فنسيت اسمها وتذكرت نفسي، على أي حال كان رناناً تدعى " ناي "
بعد سؤالي لها عن وضعها العاطفي، وخوفها الشديد، تنفست بهدوء، وشردت بنظرها على الطريق الذي يكمن فيه بناء "الفورسيزن" وصمتت ما يقارب حوالي عشر دقائق، ودون أن أقاطعها، كان شعوري في تلك اللحظات عبارة عن الندم، نعم الندم على استعجالي بسؤالي، وندمت على وضعها الحالي، الذي لا ينذر بالخير، وإنما عن شخصية خائفة مرتبكة، لا قوة لها أن تخوض غمار تجربة جديدة.
وانقضت تلك المدة القصيرة، فجاوبت هي، فولدت أنا، شعرت بارتياح شديد وكما يقال "جبل وانزاح" وبدأ طريق حياتنا ينرسم في مخيلتي، وكأننا ننسجم كما تنسجم العلامات السوداء والبيضاء على السلم الموسيقي، مشكلة أحلى وأجمل الأغاني.
بعد انتهاء هذا اليوم الجميل، كان عليّ أن ألتقي بصديقتي " نور" لتسليم بعض من التصاميم إلى شركة خارجية مختصة بالإعلانات، والتقينا كالمعتاد في "باب توما" إلا أننا توقفنا عند محل "المعجنات" لأننا خرجنا دون تناول وجبات الغداء، فتركت صديقتي وحيدة بينما كنت اطلب ما نريد، وعندما سجل صاحب المحل طلبنا التفتت، وإذا بـ "ناي" وصديقتها تقفان مع "نور" ويبدو عليهم وكأن حديثاً يدور بينهم، سارعت اللحاق بقلبي الذي سبقني إلى مكان تواجدهم، ألقيت السلام ودون تفكير بادرت بدعوتهم للجلوس معنا، إلا أن نور كادت أن تأكلني بلا ملح، بسبب كمية ضغط العمل.
كانت "ناي" غير مرتاحة، أو أنها تفكر بشيء ما، وتطيل النظرات على نور بطريقة استفهامية فضولية، على الأقل هكذا شعرت، وبحكم أنني قد نسيت أن اعرفهما على بعضهما، كما فعلت هي أيضاً، قلت لهما صديقتي "نور" شريكتي في العمل، وهنا وكأن "مسحة رسول" غيّرت معالم وجهها، وباتت ضحكتها تملأ أجواء المكان، حتى شرحت اسمها بلا تكلف، فقابلتني وقالت : " وهي أنتيمتي راما.
اطلعتها على رسوماتي وتصاميمي وبدت مندفعة أكثر مني، ومعجبة بما تراه، وفي لحظة خاطفة، ودون سابق تفكير، طلبت منها ان أرسمها، مع أنني لم أقولها لفتاة قبل، حتى ولو كانت معظم لوحاتي عبارة عن فتيات، ولكنني مع الفن مزاجي جداً، المهم طلبت منها ووافقت، وبين الغزل ضمنياً، والتمسح الجوخ سطحياً، تبادلنا بعض الكلمات المرهفة.
كانت أجواء الجلسة أشبه بحفلة ضخمة بدار الأوبرا بين دعاباتي التي زادت وانصدمت منها نور بحكم أنها تأخذ صورة مسبقة عني بأنني جامد إلى حد ما، وبين ضحكاتها التي تتراوح على السلم الموسيقي بين الهمهمة والصوت العالي، وكأنها تتمرن على علامات الناي بين القرار والجواب.
وتابعت "نور" مسلسل انصدامها وخصوصاً عندما طلبت أنا من الجميع أن نتصور، ولم تستطع حينها أن تخفي استفزازها، فقال لي: "من أيمت بتحب التصوير، صرلي 12 سنة بعرفك، ونادراً ما نتصور" وهي الأخرى لم تفهم أنها حجة صادقة وتمهيد لطلب صفحتها الشخصية ومن ثم الرقم الشخصي، نحن الذكور لدينا أساليب، مستعدين لنأكل السم على أن نحصل على ما نريد.
تصورنا بعفوية بعض الصور، وقمت بإرسالها للجميع على غير المعروف أن صاحب الصور يبقى السنين ليقوم بإرسالها للأصدقاء، وطلبت منها رابط صفحتها الشخصية تحت غطاء أنني سأقوم بنشر الصور مع " التاغات" وبالفعل أخذت هاتفي وأضافت نفسها.
وبعد أن افترقنا عند جسر الرئيس، سألتني نور : ماذا بك ، قلت لها مستفهماً : أنا ؟ ، فجاوبت بسخرية : "لا ستي، كأنك غرقان يا معلم، وبحاجة مين يشيلك؟ قلت لها : والله هلا عرفت ليش ما بعرف اسبح، لأغرق بحبا أكتر وأكتر، وهنا ضحكت هي بشدة على منظري وكلامي، نشرت الصور، اخترت الأجمل، وشاركتها لتمهيد الطريق مرة أخرى حتى أحادثها على "المسنجر".
إعداد: هديل حسام الدين – غدير ابراهيم