فتاة تبحث عن مغامرات في الحب :
في رحلة الحياة المليئة باللحظات الجميلة والتحديات الصعبة، يصطحبني الزمن في مسارات متقاطعة.
أحياناً يضعني أمام نقطة أرسمها، ومغامرات أتوق للخوض في غمارها، وهنا يطرح السؤال الحاسم هل يمكن للحب الشديد أن يعيد تلك الطفلة البريئة التي غادرتني منذ زمن، ويشكل فصلاً جديداً في كتاب حياتي؟
تساؤل يتراءى لذهني دائماً، قاطعه دخولي لصف اللغة الانكليزية الجديد ورؤيته، جلس على الكرسي المقابل لي ، شعرتُ فجأةً بنظراته تتبعني، رمقته بنظرات استغراب.
طويل بجسد رياضي ولحية كانت مبعثرة بعض الشيء وغير مسرحة، لا أنكر أن شيء بداخلي قد تحرك، شعور غريب، كنت أسمع سابقاً عن نظرة الإعجاب الأولى، التي لطالما مقتها بل ووجدتها أسطورة زائفة، لكن رؤيته غيرت تفكيري، لربما فهمت سابقاً معناها الحرفي، واليوم اختبرتها.
دائماً ما كنت أرفض أن أكون راعية المبادرات وصاحبتها لكنني للمرة الأولى شعرت بأنني ملزمة على المبادرة وعدم إضاعة الفرصة، ماذا لو عبرت عن إعجابي له؟ وأي نظرة أو فكرة قد يأخذها عني؟ قد أبدو فتاة خفيفة، أو سهلة، لكنني لست كذلك، إذاً لما التنميط والقولبة، وددت لو بإمكاني كسر نمطية نشأنا عليها.
أخرجتني المعلمة من حيرتي عندما طلبت منا أنا نعرف بأنفسنا، عرفت أن اسمه جواد وعمره 29 وتخرج من كلية الفنون الجميلة .
تبادلنا بعض الكلمات المقتضبة عندما ادعيت أنني لم أفهم شرح المعلمة لقاعدة الحاضر البسيط، حسناً بالرجوع للواقع أنني أحفظ هذه القاعدة عن ظهر قلب لكنني رغبت أن أعاود سماعها منه، وعلى الأرجح قد لاحظ تقصدي، إذ أنني بغباء سألته عن أبسط تفصيل في القاعدة أذكر أنها معلومة وردت في الصف الثاني الابتدائي.
ساعتين من الحصة انقضت، جعلتني أكره الوقت وأمقته، للمرة الأولى أدخل صف لغة جديد بحماس عالي وأتمنى أن تنسى عجلة الزمن دورانها.
عند انتهاء الدرس، وتحديداً على باب المعهد أثناء خروجنا، سألني عن اتجاه مسيري، وأخبرته أنني أذهب سيراً للبرامكة، للمرة الثانية كذبت، لأنني لا أسير، وأكره المشي أصلاً، وقتها لم أدرك سبب جوابي المتسرع، أخبرني أنه يسير باتجاه وجهتي أيضاً ودعاني لأرافقه في طريق العودة، وافقت بخجل وحذر، لكن قلبي كان يرقص فرحاً، مشينا ما يربو عن النصف ساعة، قد خلق فيها سباقنا الخاص، لم يكف عن الثرثرة، أو بمعنى أدق لم نكفْ.
لأول مرة أدقق في المظاهر من حولي، عربة الذرة في ساحة عرنوس، بائع البالونات المضيئة عند إشارة الحمرا، تجاهلت ال "70% Sale" على واجهات المحال في الصالحية ولم تغريني "New collections" في متجر ماجيلا، لفتت انتباهي تفاصيل اللوحات الجدارية على حائط مدرسة دار السلام.
سبع سنوات، أي نحو 2555 يوماً قضيتها في أروقة هذه المدرسة ولم ألحظ يوماً معالم اللوحات ومحتوياتها.
لطالما كرهت هذه البلاد، لا أحب مظاهر الحياة فيها، وأعد أيامي لمغادرتها مع صديقتي كما تعاهدنا، لكنني لأول مرة أحببت السير، أحببت شوارع دمشق ليلاً، والازدحام في الطريق، أحببت كل تفصيلاً في الطرقات التي سرنا بها، عندئذٍ فقط وجدت أن تسرعي وكذبتي "البيضاء" حول حبي للسير جاءت لصالحي.
حدثني في طريقنا عن سبب تسجيله في المعهد، أخبرني عن عدد أفراد عائلته، وعن مكان سكنه، تناقشنا قليلاً ببعض القضايا حول المتسولين وبياعي الورود الذين اعترضوا طريقنا بجملة "جبلا وردة لهل حلوة"، لا أعلم لما غضبت عندما أبعد بائع الورد عن طريقنا، رافضاً شراء الورود لي، لأنه بخيل، أم غير رومنسي، على العموم تجاهلت التصرف الذي وجدته غير لبق.
أكملنا طريقنا ببعض الأحاديث السطحية التي يدرك كلانا أننا وجدناها مدخلاً لنتحدث، أولهم أخبرني أنني جميلة، ومرحة، ثم مللت حديثه! بدأت كلماته تتبعثر حولي محدثة ضجيجاً لا يحتمل.
شيء صغير بداخلي يهرول باتجاهه، أمل مجنون ربما، لكني على عكسه تماماً، أتمهل في سيري، نجحت في رسم تلك الصورة عني: فتاة لا تبالي، أما هو ....
أنا بخطوات هادئة، متلهفاً للمرة القادمة، لحظات قليلة وددتُ لو تطول، لكنّه اضطرّ أن يودّعني بابتسامةٍ دفئت قلبي، ووعدني بأن نلتقي في الدرس القادم ونتابع حديثنا.
عقلي يخبر قلبي، "لا تدق!" لا تفعليها أرجوك! أعطني فرصة لبحث الأمر، لكن قلبي لا يهدأ، يهفو لمغامرة جديدة، يدفعني دفعاً إلى التجربة، أتنهد وقبل أن أفعلها، أنتهز الفرصة وأعترف بسري لنفسي عن جنوني.
رجل يعشق تفاصيل البدايات:
بين الوعي واللاعي بالنسبة للشباب يكمن الحب، ويتميز كلاهما بالأفعال، لكن ما علاقة الغباء بالحب، ولماذا نزداد غباء مع من نحب، على هوامش تلك الأفكار وفي زحمة الطلاب في صف اللغة الإنكليزية دخلت هي.
طلب منا أستاذة المعهد الدخول للقاعة، فجلست قبالتها، دون وعي، أم هو القدر، على أي حال، لن أستبق الأحداث، نظرت إليّ باستغراب شديد، ونظرت إليها بشغف أكثر.
هل يعقل للمرء أن يعجب بشخص ما إلى حد نسيان اسمه، رحت أفكر، كيف سيكون الحب؟ سألت نفسي وأجبت.. بهده الطريقة الكلاسيكية...! وهل فعلاً هذه النظرة الأولى أم أنها فورة البدايات، وبعدها سيصبح كل شيء باهتاً، غالباً ما يحصل هذا لدى الشباب، ينصدمون بالجمال، يدوخون، وما إن تحدثوا مع الفتاة لفترة يملّون، أو أن الخطأ يقع على عاتق الفتاة، فتارة لا تفتح مجالاً وتارة لا تعرف ما تريد، عموماً في زحمة أفكاري تركت القصة تمشي كما هو مكتوب لها، والموقف سيد الأحكام، وهذا مبدأي في الحياة.
بحكم أنني أمتلك موهبة الرسم وليس من وقت قريب، لدي بالفطرة النظر إلى تفاصيل ووجوه الأشخاص أينما وجدوا، ورحت ارسم في خيالي ما أنظر إليه، وساعدت الإضاءة في القاعة على إبراز لون البشرة البيضاء، فتدرج لون البشرة وكأنها لوحة إيطالية من عصر النهضة، وكأن الخالق استفرد في تكوينها، فجعل من شاماتها فضاء صغير، هنالك على وجهها وتحديداً فوق الحاجب الأيمن، وأخرى على معصمها في اليد اليمنى، ثقوب سوداء بحاجة إلى رائد فضاء لاكتشافها، وسأكون أول زوارها.
وبعد القيل والقال ولحظات التعارف التي طرحتها عرفت عنها ما يعرفه الحاضرون، إلا أنني ومن شدة الإعجاب نسيت اسمها، وفجأة سألتني، عن قاعدة "الحاضر البسط" وفي عقلي يجوب السؤال هل هنالك حاضراً بسيطاً عفوياً غير الذي أعيشه حالياً..وشردت.. ثم عدت لواقعي وشرحت لها حاجتها وتوسعت في الشرح حتى كاد أن يصل الحال إلى أحرف اللغة ذاتها.
انتهت الحصة، وجهزت نفسي للخروج والعودة إلى منزلي الكائن في الشارع الذي يقابل المعهد تماماً، وباللاشعور سألتها عن وجهتها.. فقالت : إلى "البرامكة" فقلت لها : "نفس وجهتي".
رحت أفكر مرة أخرى، متي يلجأ الإنسان إلى الكذب؟ وهل هذا يعتبر كذباً.. في حال كانت النوايا حسنة؟ لماذا يكذب الرجال على النساء؟ ولماذا يقولون الكذب ملح الرجال؟ وهل جميع النساء صادقات؟ بالنسبة لي يا مرحباً بالكذب إن كان السبب وراءه هو رؤيتها.
كالمعتاد في اللقاءات الأولى عرفتها عن نفسي، عائلتي،.. وفجأة سمعت "خدلا وردة.. الله يجوزك ياها" "جبلا وردة لهل حلوة" وبعصف ذهني سريع حللت كيف ستفكر لو قمت بشراء وردة وأهديتها إياها.. ماذا لو كانت بالأساس لا تحب الورد، وبدل من أن تقع في الحب، أوقعتني أنا.. أو أنها سترفض وماذا أفعل بالوردة حينها، أو تقبلها برحابة صدر، وإذا لم أقم بشرائها فربما تسألني : " ليش ما اشتريتها.. بلكي محتاج شي بحقها"، أو أن تسأل نفسها هل هو بخيل إلى أن استكثر شراء وردة، أمعقول أنني لم اعجبه، بالعموم ماذا على الشاب فعله بهذا الموقف، قطعت تفكير وقلت للبائع " الله يبعتلك" وهنا لم أعد أدري ما حصل تحول الشغف من اللقاء الأول إلى التفكير بالوردة وجوابها ونظرتها الأولى، وراحت أحاديثي تقلل من عمقها حتى أصبحت على الشط ولم تعد عميقة وذات أهمية، بالرغم من محاولتي لإطراء الجو ووصفي لها بالجميلة والمرحة.
عندما وصلنا كان الازدحام يأكل من المكان، حاولت إخفاء شخصيتي المترددة، -إلى حد ما- لكن تمنيت لو نطقت بكلمة تعطيني جواباً مبدئياً، على كلاً جميع الفتيات والنساء هكذا، يفضلون الاستماع وعدم رمي السنارة تخوفاً من أي شيء قد لا يكون له علاقة بالقصة من وجهة نظري لكن من وجهة نظرها قد يكون مفصلياً.
صعدت هي للباص الأخضر "فاحمر فجأة" وبابتسامة لطيفة من كلينا ودعنا أنفسنا إلى لقاء أخر يجمع فتاتنا في المعهد الإنكليزي.
إعداد: غدير ابراهيم - هديل حسام الدين