"يا دنيا عالبلاوي مصاب عيني.. ندامة صرت عضعض مصابعيني.. ريتو مصاب عينا ومصاب عيني.. ولا قالوا مخرمشة رموش الهداب"
لهذه الأبيات قصة واقعية، في مدينة الغاب بمحافظة حماة، حيث كان هنالك رجلاً يعشق لحد الجنون يقال أنه الشاعر السوري الراحل جميل إبراهيم جنيد، فعمل بطيّب أصله، وأكمل قصته بالحديث مع ذوي العشيقة إلا أنهم رفضوه، وبعد فترة من الزمن تزوجت الفتاة زواج أهل، وانقطعت سبل التواصل، حتى رؤيها صدفة، إلا في يوم من الأيام وعلى ضفاف أحد الأنهار في المدينة رآها ، وكانت العلامات الزرقاء قد أكلت من وجهها ما يفضح قساوة حياتها مع زوجها، فقال لها تلك الأبيات، لتنتهي قصتهما بسفر الأخيرة إلى مدينة الشام لعلاج عينها المريضة التي تم فيما بعد استئصالها، حيث قال في فراقها عندما علم : "سامع من دمشق الشام عنهم.. قبل ما تورد الأخبار عنهم.. وقبل بدء الطبيب بشيل عينهم.. صحت يا أخ من هول المصاب".
العتابا والميجانا والدلعونا وأم الزلف واللالا وعاليادي وجملو، تراث سوري يتفنن بوصف تلك الفترة، اختص بها الراحل جنيد، كان يجد فيهما طريقاً يوصف مشاعر الحب، وآلم الفراق حتى وصل الحال إلى الرثاء.
فاليوم تطوف كلماتنا في بحر من اللغة التي لا نعرف كيف نستخدمها في وصف من نحب، لنرسى بالأخير على بعض الكلمات التي صارت مكررة، إلا أن العتابا لخصت ما يكمن وصفه بأربعة أبيات حيث قال جنيد في أبيات متتالية عن وصف من يحب: " لها جعداً مع التنسيم حرك.. لطم بجانبك يا بحر حرك.. خفف يا شهر تموز حرك.. حبيبي مارق بروضة عشاب" وقال في نفس القصيدة: " لها حاجب كم الهلال بسماه.. ولها خلقة كمثل الريم بسماه.. ولها كون إله العرش بسمه.. وإن شافا عليل القلب طاب" وختم وصفه قائلاً: "لها نظرة تعل الروح بعتاب.. لها قلبي وصحن الدار بعتاب.. لها ديوان شعري ونثر وعتاب.. وغلّات الزهور من الطياب".
ولم يكن جنيد صاحب قصة مثالية في الحب، فقد تنكهت بألم الفراق تارة وبالحنين تارة أخرى، فلحظة ترى جرحه يقطّر دماً على فراقهم، باستسلامه للهجر، ولحظة يطلب من نسمات الهواء أن تداعب قلبه بعطر من فقدهم، وقال: "نَسّم يا نسيم الصبح طَيّب.. وجعود الزّين بالرّيحان طَيّب.. وكل ما قول جرح القلب طَيّب. يعود ينزّ ع فراق الحباب" ووصف مرة أخرى" مَ عدلي جلد عالفرقة يا غربة.. ودوم الوجد عالديرة يغّر بيّ.. أماني كل ماتنسم يا غربي.. جبلي ريحة جعوداً طياب".
وتوارثت الناس في تلك الفترة العتابا، حتى كاد الكل يتغنى بها، لتمتلئ بين أوراق شجر الغار والزيتون، وأمام سنابل القمح وفي الصيد، حتى في الهروب من الأهل لملاقاة من نحب لا تخلوا من العتابا حيث كانت تقول لنا جدتنا : "يا شوفير عجل دوس.. بيي وأمي ورايي.. حط السرعة ع 90 ولا تتربع خطايي".
وبالعودة إلى الاحتلال الفرنسي، قام علي زاهر الذي حكم عليه الفرنسيين بالإعدام والصديق المقرب للشيخ المجاهد صالح العلي، قد أرسله وصيته مع رسالة مكتوب فيها " يا صالح لفرنسا لا تصالح.. وعظم يلي انكسر ما ظن صالح.. يا سايس قدم المهرة لصالح بروس حوافرها تقتل دما".
بالنهاية اليوم تطورت أساليب الغناء، حتى كادت العتابا أسلوبا غنائياً يفطر المزاج وليس القلب، إلا أن قلة قليلة من الفنانين المتأثرين بعبق الماضي، يستحضرون أرواح من رحلوا من عمالقة هذا الفن في مواويلهم.