في عمق العصر الرقمي الحديث، تعتلي تطبيقات الهواتف الذكية منصات القوة وترسم مسارات الحياة الجديدة للأفراد، لتبرز في سماء "الاقتصاد" الرقمي، يتوّجهون الأفراد إليها بحثاً عن فرصة لا تضاهى لتحقيق الربح والاستقلالية المالية، ولكن هنا تتقاطع الأمانة والمسؤولية مع الربح والنجاح، في عالم يحتضن الفرص والتحديات على حد سواء.
عائدات بالملايين:
انتشرت خلال الآونة الأخيرة في سورية ظاهرة "تجارة التشات" عبر تطبيقات الدردشة مثل "بيغو لايف- ميكو لايف- party star- لايكي- الآيمو.. وغيرها"، والتي تمكن المستخدمين من مشاركة لحظاتهم الحيّة مع المتابعين، الذين بإمكانهم دعم المستخدمين المفضلين "بهدايا" داخل التطبيق، محققةً أرباحاً كبيرة شهرياً، مثيرةً جدلاً واسعاً حول طبيعة العمل الذي من الممكن أن يخفي وجهاً غير أخلاقي.
وبحسب صحيفة سورية، إن امتهان العمل في هذه التطبيقات يتطلب وجود وكيل يرسل له المستخدم الراغب بالعمل كصانع/ة محتوى أو مذيع/ة طلباً يتضمن بياناته الشخصية، وبعد موافقة الوكيل يحدد له ساعات العمل "ساعات بث يومية"، يعتمد خلالها على جمع نقاط الربح "Target"، التي يتم منحها منذ لحظة دخول التطبيق وتتجمع مع الوقت لتتحول إلى هدايا.
وعلى سبيل المثال، كل 150 نقطة تتحوّل إلى هدية، وكل 500 تتحوّل لرموز بعدّة مسميات مثل "ماسة" و"دراغون"، وكل رمز يصرف مالياً وفق ثمنه، عدا "التحديات" و"الهدايا المدفوعة" التي يشحنها المتابعون لحسابات المستخدمين بعدة رموز لكل منها سعره، فتكون مهمة الوكيل تحويل النقاط إلى أموال مقابل عمولة 20 في المئة، ويجري إرسال الأموال عبر شركات الحوالات المحلية، حيث تتراوح معظم الأرباح بين 200 إلى 1000 دولار شهرياً، بحسب الصحيفة.
مذيعات بيغو لايف:
يحظى "البيغو لايف" رواجاً كبيراً في سورية، ويعتمد على البثّ المباشر والمستمر، أطلقته شركة سنغافورية عام 2016، يتم التواصل مع أحد وكلاء التطبيق في لبنان عادةً، ثمّ يتوّلى الوكيل فتح حساب للشخص ليبدأ العمل فتح البث والتكلم في العموميات.
أمام هذه المعطيات تقول إحدى الشابات الّتي تعمل من خلال هذا التطبيق، بأنها سعت لتثبت نفسها بقوة في ساحة العمل الرقمي، ولم تجد أي مانع من استغلال أنوثتها، مضيفةً بأنّ عملها يشبه عمل المذيعة في التلفزيون، ولكن هنا عليها ان تكون المعدّة والمخرجة والمصورة والمذيعة في آن معاً.
يدرج في هذا البرنامج ما يسمّى “التحدّيات” مثلاً بين فتاتين، والتي تربح التحدّي تشترط على الخاسرة إجراءات إذا لم تنفذها قد تفقد كامل محفظتها.
وهنالك بعض النقاشات التي تجري دون تحدّيات، وجائز أن تكون نقاشات حضارية وثقافية وتصبّ في خدمة العلم، ويتم كسب المال عن طريقها بواسطة نقاط الربح ولكن هذا النمط من الحوارات قليل ونادر، بحسب كثيرين ممن يعملون في هذا التطبيق.
صوت.. بدون صورة:
يتّجه الكثير ومنهم الفتيات لاختيار تطبيقاً للدردشة الصوتية والكتابية للعمل فيه، بدلاً من التطبيقات التي تظهر الصورة والصوت معاً، وبالنسبة لمن يدخل للدردشة مع هؤلاء الفتيات، يقوم بشحن حسابه “محفظته” بالهدايا ليقدمها لمن تقوم بالبث المباشر، ويتم شحن محفظته من ما يسمى متجر “البيغو لايف”، وبهذه الهدايا “المدفوعة” يتم الاستجرار إلى مايسمّى البث المباشر الخاص والطلبات المريبة”.
فنانون على الخط:
ينشط كثير من الفنانين و"المؤثرين" على تطبيقات الدردشة والبث المباشر، قد يتعرض هؤلاء لتعليقات مسيئة وإهانات، لكن أمراً كهذا قد يصب في صالحهم أحياناً، فتتتالى أخبارهم على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ويتصدرون "التريند" بفضل شهرتهم.
شهدت الدراما السورية تراجعاً كبيراً خلال سنوات الحرب ما أدخل الفنانين السوريين في أزمات مادية كبيرة، دفعتهم للعمل على برامج البث المباشر بحثاً عن العمل والمال، حيث اقتحم الفنانون السوريون تطبيقات عديدة مثل “بيغو لايف” و “تيك توك” و “ميكو لايف” و “لاين”.
وفي تصريح للفنان السوري “يزن السيد” الذي نشط مسبقاً على “بيغو لايف” لبرنامج “في فخ” قال إنّه يتقاضى من عمله على برنامج البيغو شهرياً ما يعادل 200 مليون ليرة سورية، ويزيد ويقل ذلك المردود حسب الدعم المقدم له خلال الشهر.
ورغم ذلك، لاقى تواجد الفنانين في مثل تلك البرامج هجوماً وانتقادات واسعة، خاصةً بعدما أصبح الكثير من الفنانين يشاركون في برامج لا يوجد فيها ضوابط أخلاقية، واعتبر المتابعون أن مشاركة الفنان مع فتاة أخرى تظهر مفاتن جسدها تقليل لقيمته الفنية.
المشكلة الكبرى أن كثيراً من هذه التطبيقات تُستخدم أبواباً خلفية للدعارة الإلكترونية، إذ سهّلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات انتشار الدعارة عبر الإنترنت في معظم البلدان عبر العالم الرقمي، وأصبحت الشبكة مطرحاً لتبادل السلع والخدمات الجنسية، واستُنسخت "الدعارة الفيزيائية" في الفضاء الرقمي، حيث يعمل أشخاص على تجنيد فتيات وسيدات عبر فضاءات افتراضية وتطبيقات دردشة.
ليس الجميع يقصد الدعارة الالكترونية:
يعدّ الدافع المادي عاملاً رئيسياً خلف هذا الظهور بحسب ناشطات على هذا المواقع في داخل سوريا وخارجها على السواء، فمثلاً على تطبيق البيغو لايف هناك فتيات في الداخل يستهدفن في بثهم دول الخليج ويحظرن ظهور محتواهن بسوريا تجنباً لردود فعل المجتمع، وأغلبهم لا يقصدون هذا البرنامج لبيع جسدهم كما يدّعي الكثير، ولا يقدمون في محتواهم أي انتهاك، بل أحاديث وحوارات ونقاشات يقوم بها مختلف الأشخاص على ارض الواقع في مجتمعنا لكنهم يرفضون ان يروها في التلفزيون وعلى فيسبوك أو تيكتوك أو بيغو لايف.
وبحسب الناشطات، إن المردود من هذه التطبيقات يساعد على الدراسة، وتأمين مستقبلهن ومساعدة عائلتهن، ويوفر لهن دخلاً شهرياً جيداً.
رأي الاختصاصين ممّا يحدث:
أوضح الدكتور في التنمية البشرية والاستشاري في العلاقات الزوجية عدنان علبه ل "داما بلاتفورم" أن هذه التطبيقات الالكترونية سلاح ذو حدين، حيث سهّلت التواصل الاجتماعي بين الناس وساهمت بتقديم الخدمات وتوصيل المنتجات، كما أنّها ساعدت في تطوير العلم والحصول على المعرفة عن بعد.
ونوّه علبه إلى الإشكالية في هذه التطبيقات وكمثال عليها "البيغو لايف"، فشدّد بأنها تكمن في نسف دور الدولة، وفلسفة السوق، وتعزيز فلسفة الاستباحة والاجتياح والتنميط الكوني للبشر، من خلال بث مباشر يمكّن المستخدمين من مشاركة اللحظات الحميمة مع المتابعين، سواء كانت لحظات إثارة العقل الغرائزيّ من أكل وشرب أو جنس.
وأكدّ علبه أن هدف هذه التطبيقات نسف الاخلاق الّتي تقوم عليها قوة تماسك الأسر وبالتالي المجتمعات، كما أن هدفها الأساسي الربح السريع من خلال إثارة الغرائز لاكتناز المال وتسليع البشر والمتاجرة بأجسادهم وغرائزهم ومشاعرهم في سبيل الحصول على مبالغ مالية معينة.
بدورها أوضحت الإخصائية في الصحة النفسية سارة عامر ل "داما بلاتفورم" أن مثل هذه التطبيقات أصبحت مشكلة حقيقية وأن الآثار المدمرة أخلاقياً لها لا تقتصر على مجتمع دون الآخر، ويمكن أن تُلمس آثارها السيئة من خلال ارتفاع العنف الجنسي في المجتمع.
وأضافت عامر بأن هذه التطبيقات أدت إلى إفقاد العائلة لقيمها ومبادئها وتغيير الشعور نحو النساء إلى الابتذال بدل الاحترام، ومن المودة إلى الإهانة، ناهيك عن الأثر النفسي على الفرد خاصةً عندما يتعرض لابتزاز الكتروني مما يجعله يعيش في حالة من الصراعات الداخلية وقلق وتوتر واكتئاب.