مقالات اقتصادية

أسواقٌ داخل سوق

post-img

باتت شوارع دمشق مهيّأة لتكون مظلة لسوق جديد، إنّه سوقٌ يعيش في العالم السفليّ والأرصفة وفي الظلّ، يتكاثر بسرعة كبيرة، "بسطات" جديدة تضاف لو قدر لها الإحصاء في كل دقيقة أو ساعة، وهنا تتنوع البضائع ولا يمكن لك أن تبحث في هذا السوق عن سلعة لا تجدها، من الألبسة إلى قطع المعدات الكهربائية، وقطع الإصلاح، الخضروات، الأحذية وغيرهم الكثير.

تتعدّد الأشكال والاسم ثابت:

 يعرّف اقتصاد الظل بأنه مجمل الأنشطة التي لا تتمّ تحت مظلة القانون وشفافيته، وينقسم إلى قسمين، الأول يطلق عليه اقتصاد الجريمة أو الاقتصاد الأسود (بيع سلع محرمة، إنشاء شركات وهمية، سرقة الآثار، المتاجرة بالبشر.. الخ)، والثاني الاقتصاد غير الرسمي وذلك عندما يكون التعامل به ممنوعاً واستخدام السلعة مسموحاً (السوق السوداء لبيع بعض السلع، دكاكين وورشات غير مسجلة، دروس خصوصية، عمال الأجرة… الخ).

أرقام غير مستقرّة:

مازالت التقارير المحلية حتى الآن عاجزة عن إعطاء رقم حقيقي عن حجم الأعمال غير المعرّفة والمختبئة تحت مسمّى اقتصاد الظل، ولاتزال الإحصائيات تتراوح في مكانها عند عتبة الرقم 40%، فيما تذهب تقارير أخرى صادرة عن اقتصاديين وباحثين أبعد من 60%، أما الوزارات المعنية عن ذلك النوع من الاقتصاد فمازالت تبرر غياب وجود إحصائية دقيقة إلى ظروف الحرب وانتشار الأنشطة الاقتصادية على اختلافها ابتداءً من البسطات إلى ورشات الخياطة وإصلاح الأحذية ومروراً بمهنة الحلاقة وبيع الألبسة المستعملة وغيرها من الأعمال التي امتهنها المواطنون في ظلّ عدم توفر فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة.

بحسب أحدث إحصائية نشرتها صحيفة سورية، إنّ نسبة اقتصاد الظل في سورية يتجاوز 70 بالمئة، إلَا أنّ دقة الرقم الإحصائي للبيانات الرسمية غائبة، إضافة إلى صعوبة التقدير الناتجة عن تشابك وتداخل أنشطة القطاع الرسمي مع غير الرسمي، حيث أن معظم من يعمل في القطاع الرسمي يعمل أيضاً في اقتصاد الظل من أجل تحسين الدخل.

لذلك يوجد العديد من التقديرات المبنية على المشاهدة وليس على أساس علمي، تتفق معظمها على أن اقتصاد الظل في سورية في حالة توّرم مزمن ومستمر، وإنّ اليد العاملة الّتي تغذيه هي شريحة الشباب، وذلك بسبب ارتفاع معدلات البطالة المتفشية بين هذه الشريحة.

بيئة خصبة لظهور أمراء الحرب:

إن انتشار اقتصاد الظل يعني عجز في الموارد العامة للدولة، وهذا ينعكس لاحقاً على جودة الخدمات العامة المقدمة وعلى حسن رسم السياسات، علاوةً على ذلك إنّ لاقتصاد الظلّ نوعاً آخر ذا طبيعة إجرامية مؤذية للاقتصاد والمجتمع، مثل تجارة السلاح والآثار والمضاربة على العملة وغيرها.

ممّا كان السبب الرئيسي لبروز أمراء الحرب، وتجار الأزمات الذين احتكروا بعض السلع وتاجروا بها مثل تجار المواد الغذائية، ولا يمكن إغفال دور العقوبات الدولية الّتي ساهمت في خلق طبقة من الأثرياء الجدد من دون تاريخ تجاري عملوا كوسطاء وسماسرة لتأمين بعض المواد الأساسية للالتفاف على العقوبات.

مابين الضارّ والنافع:

تختلف الآراء وتتناقض حول اقتصاد الظل، فهناك ممن يرون أن تنظيم المهن والأعمال في الوقت الراهن قد يتسبّب في "قطع رزق" الكثير من الناس الّذين لجؤوا للمناطق العشوائية أو البعيدة عن عين المراقبين بحثاً عن قوت يومهم ويوم صغارهم.

ويذهب البعض الآخر إلى اعتبار اقتصاد الظل داعماً للسوق وهو أساس الاقتصاد، ومن الواجب عدم النظر وكأنه مخالف للقانون، وتهيئة بيئة قانونية مناسبة لاحتضانه بعيداً عن النظرة السلبية، لأن كل تاجر كبير بدأ بورشة صغيرة، ووجود اقتصاد خفيّ في الوقت الراهن يقي المجتمع من أعمال غير محبّبة يبحث أصحابها عن قوت يومهم بغض النظر عن الوسيلة.

في المقابل، يعتبر الكثير هذا النوع من الاقتصاد كسرطان ينتشر في الجسم الاقتصادي السوري، ولهذا الاقتصاد تأثير سلبي في المجال الصناعي والتجاري وذلك من خلال قدرته على تأمين السلع بأسعار أقل من أسعار السلع النظامية، ورغم كلّ هذه السلبيات لا يمكن إغفال فكرة أن لاقتصاد الظل إيجابيات، فهو يعمل على الحدّ من مشكلة البطالة ويعمل على تأمين الاكتفاء الذاتي في بعض المواد والاحتياجات، كما يؤدي إلى زيادة الدخل للأفراد، وخاصة في ظل انخفاض مستويات الدخل بشكل عام‏.

باعتبار أن نشاطات اقتصاد الظل بأنواعها كافة لا تخضع للتسجيل الرسمي ولا تحصر إحصائياً، فإنها تزيد نسبة الخطأ في الحسابات القومية الرسمية، إلى حد تشويه هذه الحسابات، ممّا يعيق عمليات التنبؤ الاقتصادي ووضع الخطط والاستراتيجيات.

في وقت يساهم اقتصاد الظل في توفير فرص عمل وامتصاص جزء من العمالة، فإنه يؤدي إلى تشويه ملامح سوق العمل وضبابية في  ملامحه.

من جانت آخر، تؤدي زيادة حجم نشاطات اقتصاد الظل إلى حرمان المالية العامة من الموارد التي كان من المفترض أن تتدفق إليها فيما لو تمت هذه النشاطات في الاقتصاد الرسمي، إضافةً إلى ارتفاع مستويات الفساد وذلك نتيجة طبيعية للنشاط غير القانوني الذي يكون مخفياً وبعيداً عن أعين الرقابة، وما ينتج عن ذلك من استعمال طرق ملتوية ودفع رشاوي وتقديم هدايا عينية وإلى ما هنالك.

والآثار الأشد خطورة لهذه الظاهرة هي المساهمة في زيادة معدلات التسرب من النظام التعليمي لأنها توفر فرص عمل لشرائح واسعة من المجتمع، بمن فها الأطفال والشباب، وما ذُكر ماهو إلا نقطة  في بحر عميق يعجّ بالآثار بعيدة المدى على اقتصاد البلاد.

وبالمختصر، إنّ السبب في العقلية التي تقود الاقتصاد إلى الظلّ، هي تحكم مزاجية المنع في عقول المسؤولين الاقتصاديين وغيرهم ممّا يضخم من اقتصاد الظلّ، وعندما تعطى الصلاحيات المطلقة لبعض الجهات في تحديد سلوك الناس ينتشر الفساد والرشوة.

 

راما علبه

 

 

 

 ‏

مقالات ذات صلة

داما بلاتفورم :

هي رحلة تتجاوز من خلالها الحدود التقليدية للإعلام ، منصتنا الرقمية التفاعلية تُقدم لك برامج متنوعة ومحتوى جريء يُلهم الأجيال الشابة ويستثمر في التحول الرقمي الإعلامي .

 

اكتشف معنا :

محتوى مُبتكر يُقدمه متخصصون في مختلف المجالات الإعلامية ، تجربة مستخدم فريدة تلائم تفضيلاتك.

 

لا تفوت الفرصة لتكون جزءًا من هذه المنصة الرائدة! انضم إلينا الآن وكن على تواصل مع العالم من خلال "داما بلاتفورم".