لم يكن من السهل توقع تحرّكات الاقتصاد في الآونة الأخيرة، فقد جلبت السنوات الأربع الماضية وحدها ما يكفي من التقلبات والتحولات لملء كتاب تعليميّ عن الاقتصاد.
من جائحة كورونا- 2019، وفوضى سلاسل الإمداد من "المورد إلى المستهلك"، والتضخم، إلى السياسات النقدية المتساهلة ثم المتشددة، وغير ذلك الكثير، فبات من الصعب التنبؤ بمسار الاقتصاد العالمي.
من السيء إلى الأسوأ:
خرج الاقتصاد العالمي من عام 2023 وهو في وضع مضطرب، وذلك بفعل الأحداث الضخمة التي شهدها العالم، وخصوصاً الحرب الروسية الأوكرانية التي تُرجِمَت أعباؤها ارتفاعاً بأسعار السلع الأساسية كالطاقة والغذاء، فضلاً عن الارتفاع الكبير في نسب التضخم، ولجوء المصارف المركزية إلى رفع مستويات الفائدة ما انعكس ارتفاعاً في معدلات الديون وانهياراً بأسواق الأسهم العالمية.
وفي ظل هذه البيئة الصعبة، لا يضع المستثمرون في العالم آمالاً كبيرة في أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية خلال العام الجديد 2024، فالمؤشرات الحالية تخبرنا أن هناك الكثير من المخاطر التي تتربص بالاقتصاد العالمي، وهذا ما أكده التقرير الحديث الّذي نشرته شبكة "بلومبيرغ"، والّذي شرح عدداً من العوامل الرئيسية الّتي تقود إلى " نظرة متشائمة" حيال الاقتصاد العالمي، وبالنظر إلى تفاقم تطورات الأوضاع في عدد من الملفات، من بينها التوترات في منطقة الشرق الأوسط، متمثلة في العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، واستهدافه المتكرّر للجنوب اللبناني، والغارات الأمريكية على البحر الأحمر.
سيناريو الكساد الكبير لاحق 2023، فماذا عن 2024؟
وفي هذا الصدد، تدور الأسئلة الاقتصادية وتلتف حالياً حول مصير الاقتصاد العالميّ المستقبليّ مع تصاعد طبول الحرب الدوليّة، فما يحدث في العالم صراعاً متصاعداً على الوجود بدلاً من الحدود، وتسود حالة التشاؤم وعدم اليقين بشأن المستقبل، نظراً لتركز رؤوس الأموال والتهميش الاجتماعي بين الدول وداخل الدولة الواحدة.
فيؤكد العديد من المفكرين الاقتصاديين العالميين أن الاقتصاد العالمي في سنة 2022 كان يعيش أحوالاً سيئة ويشبه إلى حد ما الفترة بين عامي 1929 و 1938، والّتي تدعى فترة الكساد الكبير أو الازمة الاقتصادية العالمية الكبرى الّتي تلت الحرب العالمية الأولى وسبقت الحرب العالمية الثانية وأثرت بشكل مباشر على الدول الصناعية الرئيسية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، الّذين شهدوا تراجعاً حاداً في الإنتاج والتجارة والاستثمارات.
حين ينحني الاقتصاد الأوروبي تحت وطأة الضغوط:
ومع زيادة التوترات العالمية الحالية، وخاصة إذا انتقل الصراع من الميدان الاقتصادي إلى الميدان العسكري بين الدول والتحالفات الكبرى المسلحة بالأسلحة النووية، قد يترتب على ذلك عواقب كارثية أكثر مما نتوقع، فبدءًا من عام 2023، شهدت الأحداث العالمية تفاقماً يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، وبدأت الدول الصناعية تواجه مشاكل اقتصادية جوهرية على غرار باقي دول العالم.
ومن خلال استعراض الخريطة الاقتصادية العالمية، يمكننا أن نلاحظ تغيراً في معالم القوة الاقتصادية التي تشكل الأساس المادي لكل أشكال القوة الأخرى، ونتيجة لذلك، تتطلب هذه الظروف ضرورة تغيير بعض المصطلحات الاقتصادية المستخدمة، مثل الدول المتقدمة والدول النامية، ودول الشمال والجنوب، ودول القيمة المضافة ودول الاقتصاد الريعي، ودول النظام الاشتراكي والرأسمالي.
إلى حد ما يسيطر حالياً مصطلح الصراعات الجيوسياسية، وكمثال على ذلك لم تعد القارة الأوروبية كما كانت، والتظاهرات الاجتماعية في كلّ من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، خير دليل على أزماتها الاقتصادية، وذلك نتيجة تراجع مستوى المعيشة والإنفاق الاستهلاكي وقيمة القوة الشرائية ومعدل النمو الاقتصادي وقيم الناتج المحلي الفعلية الإجمالية وسلاسل التوريد والإمدادات والتدفقات النقدية الخارجية والاحتياطيات النقدية وعمل الأسواق المالية والبورصات والاستثمارات ومعدلات السيولة والعقود الآجلة وغيرها.
دور النظريات الاقتصادية ممّا يحدث:
بحسب خبراء اقتصاديين، فأن لكل من هذه القوى المتصارعة إجراءاتها الاقتصادية المعتمدة على نهجها الخاص بها والمشتقة من النظريات الاقتصادية القديمة التي تُدّرس في كليات الاقتصاد مثل "المركانتيلية والفيزوقراطية والكلاسيكية"، والماركسية والكينزية والنقدية.
ويرى الخبراء أن ما يجري حالياً تجاوز حدود هذه النظريات، ومع قناعتنا بأن كل الاحتمالات مفتوحة على المستقبل فإن العقل البشري سينتصر وسيظهر قريباً ضوء ما في نهاية النفق، وستظهر رؤى اقتصادية جديدة قادرة على إنقاذ العالم من حرب إن وقعت ستدمر كل شيء، فهل هذا الواقع يمهد للتفكير "خارج الصندوق"، لأن لكل مشكلة حلها الكامن بها لكن إذا وقعت الحرب فإننا نتفق مع العالم الألماني "ألبرت آينشتاين"، حين قال: "أنا لا أعرف ما هي الأسلحة التي سوف تكون في الحرب العالمية الثالثة ولكن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة".
مابين البجعة السوداء ومنهج ابن خلدون:
وبحسب خبراء اقتصاديين، إنّ الحقيقة ليست محصورة بمداركنا بل قد تكون خارجها وبما يذكرنا بنظرية "البجعة السوداء " وجوهرها، أن أغلب الناس يعتقدون أن لون البجع أبيض واستمر هذا الاعتقاد حتى سنة 1697 حين اكتشف البحار الهولندي "ويليم دي فلامينغ " بجعة ذات لون أسود، وبالتالي أبطلَ المفهوم السائد في وقته والمعتمد من قبل الكاتب الروماني الساخر "جوفينال" بأن البجعة السوداء مصطلح يدلّ على الأحداث النادرة الحدوث، وبالتالي بعد اكتشافها تم التأكيد بأن عدم رؤيتنا للبجع الأسود لايعني عدم وجوده، وهذا ينطبق على قدرة التنبؤ بمستقبل الاقتصاد العالمي، وقد يكون الحل في نظرية موجودة لكن غير معروفة مثل "البجعة السوداء "، وتتجسد في رؤية الفيلسوف "ابن خلدون" بربطه بين النمو الاقتصادي والعمران.
فالعمران من وجهة نظر ابن خلدون يؤدي إلى زيادة الدخل، الذي بدوره يؤدي لزيادة الإنفاق، الذي يمثل طلباً على السلع الترفية ما يؤدي إلى رواجها، وزيادة حجم إنتاجها، فيزيد الدخل ويتحوّل مرة ثانية إلى إنفاق، وتتكرّر الدورة نفسها من جديد، وهكذا ننقذ الاقتصاد العالمي فهل تكمن البجعة السوداء عند الفيلسوف ابن خلدون؟
راما علبه