عندما نتحدث عن مدينة دمشق، تتبادر إلى أذهاننا صورة المدينة العتيقة ذات الأسواق الضيقة والمطاعم الفاخرة التي تستقطب السكان المحليين والسياح على حد سواء، إلا أنه، في الآونة الأخيرة، شهدت تحولًا غير متوقع نتيجة للغلاء المتزايد الذي يعاني منه الناس، والانقطاع المتكرر للكهرباء، ما دفعها للتحول إلى فنادق تستقبل الهاربين من ضجيج الحياة اليومية لساعات قليلة، والباحثين عن أجواء تتلاءم وأعمالهم أو دراستهم
في ليلة من ليالي الشتاء القارسة، يعتري دمشق ظلاماً مخيفاً يظهر من خلف النوافذ ويغزو الشوارع المعتمة، تتعطل المصابيح وتتعالى أصوات المولدات، وتختنق البلاد بغياب الكهرباء، في هذا الظلام المسيطر، تتحول المدينة إلى ساحة غريبة حيث يتفاعل الناس مع الظروف المحيطة بطرق مدهشة.
تزدحم أروقة المطاعم، التي تحولت مؤخراً لمقاهي، بأصوات العمل والدراسة، بينما يلتصق الدخان الخفيف من "الأركيلة" بالهواء، يصاحبه الضحك والمحادثات الخفيفة التي تملأ الأجواء، هنا، تتعايش الروح العتيقة لدمشق مع الحاضر المظلم، وتنبثق قصص وتجارب جديدة تجمع بين الماضي والحاضر.
وعندما تصبح الرفاهية حلم بعيد المنال والتمتع بتجربة المطاعم كطلب المستحيل، فإن الناس يلجؤون إلى بدائل لتلبية شهيتهم وتسلية أذواقهم، في دمشق، العاصمة السورية، يشهد الغلاء المتصاعد تحول مطاعمها الشهيرة إلى مقاهٍ يحتضنون فيها "الأركيلة" ويشربون فنجان القهوة أو الشاي بحرية، فيما لم يعد تذوق الأطباق اللذيذة والتمتع بتجربة تناول الطعام هما الهدف الأساسي، بل الهروب من دفع الأموال الباهظة هو الغاية الأكثر أهمية.
صورة تعكس واقعاً مريراً لمدينة مضطربة ومعاناة شعب يحاول البقاء وسط عواصف الحياة، فالغلاء الفاحش أعاد تشكيل مفهومنا للترف والمتعة، وجعل من المأكولات اللذيذة طعماً محظوراً للعديد من الأسر، وبينما تحتضن المقاهي الشعبية أحلام الشباب المغيبة، تلوح المطاعم الفاخرة في الأفق وكأنها ذكرى بعيدة.
وتحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، بدأت معظم المطاعم المعروفة في دمشق تعتمد على خدمات الكافيتريا بدلاً من تقديم الوجبات الغذائية.
إذا مررت في أحد شوارع باب شرقي في دمشق في بداية الأسبوع، ستجد المناظر الخالية والمطاعم التي تشبه المقابر، قد لا تجد سوى طاولة أو طاولتين في كل مطعم، والبعض منها قد يكون فارغاً تماماً من الزبائن، مع كل يوم يمر، يزداد الإحساس بأن المطاعم في دمشق أصبحت كهوفاً مظلمة ومهجورة، تفتقد الحيوية والحماسة التي عرفت بها في الماضي، حيث يتلاشى صخب الأطباق الشهية ويحل محله هدوء غامض يسيطر على الأجواء.
هكذا تنعدم الحياة والحركة في أروقتها، وبينما يزداد الإشغال في أيام الخميس والجمعة، يبقى الأمر محدود المدى ومؤقتاً. فقد أصبحت "الأركيلة" والقهوة والشاي هما الأبطال الوحيدين في هذا السيناريو المرير.
تقول الأرقام والحقائق إن العديد من رواد المطاعم قد قرروا الابتعاد عن جناح الطعام والانتقال إلى جناح "الكافتيريا"، ولكن للأسف، لا يعني ذلك أنهم قد وجدوا الجنة المفقودة لأسعار معقولة، بل إنهم اكتشفوا أنهم قد تم ترحيلهم إلى عالم موازٍ بأسعار مرتفعة ومفرغة لجيوبهم.
وإذا كنت تتساءل عن الأسعار التي دفعت الناس لاتخاذ قرار هجرتها، فالمبرر أن سعر "الأركيلة" يتراوح في مطاعم باب شرقي بين 17 ألف وصولاً ل 25 ألف ليرة، بينما يتراوح سعر فنجان القهوة بين 15 إلى 18 ألف ليرة، ما يعني أنك ستدفع ما يقارب 32 ألف ليرة لقاء ساعة تسلية في المقهى، دون أن تحسب ثمن عبوة المياه الإلزامية التي قد تصل إلى 10 آلاف ليرة، وضريبة الإنفاق الاستهلاك وإعادة الإعمار، فيما تراوح سعر كوب الكوكتيل بين 16 و 40 ألف.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على مطعم باب شرقي فقط، في المزة والمالكي وأبو رمانة وحتى "قاسيون مول"، تجد أن سعر "الأركيلة" يصل إلى غاية 30 ألف ليرة!
كما تتصاعد أسعار المقاهي الشعبية في منطقة الحجاز والمرجة وساروجة إلى آفاقٍ لم تكن يوماً في الحسبان، فبينما يحاول الناس الهروب من ضغوطات الحياة اليومية والاسترخاء في مقهى شعبي، يجدون أنفسهم يواجهون تحدياً جديداً وهو الأسعار المرتفعة التي أصبحت تكاد توازي تلك في العواصم العالمية الفاخرة.
فقد تباينت أسعار "الأركيلة" فيها بين 15 و18 ألف ليرة، وقد تصل لغاية 20 ألف ليرة ولتكون الصورة أوضح، يجب أن لا ننسى أن سعر فنجان القهوة البسيط يتراوح بين 8 و13 ألف ليرة.
وفي إطار السخرية من هذا الوضع، تعتزم الجمعية الحرفية للمطاعم والمقاهي والمتنزهات في دمشق إصدار تسعيرة جديدة للمأكولات والمشروبات.
وهكذا، فإن الأمل يبدو بعيد المنال عن المواطنين العاديين الذين يحلمون بجلسة مريحة في مقهى شعبي، حيث يمكنهم الاسترخاء والتمتع بلحظات هدوء وسط ضجيج الحياة اليومية، وفيما يبدو، قد يكون الحصول على تلك اللحظة الثمينة يتطلب الآن توفير ميزانية توازي أسعار الفنادق الفاخرة والمنتجعات السياحية.
وبينما ينتظر الناس بفارغ الصبر صدور التسعيرة الجديدة، يستمرون في تساءلهم الساخر: هل نحن حقاً في دمشق؟ أم أننا انتقلنا إلى عالمٍ موازٍ يشبه باريس الفخمة؟ بعد أن قهوة الصباح إلى مشروب فاخر يفوق قدرة الكثيرين على تحمل تكاليفه؟!
في النهاية، يبقى السؤال الحائر: هل ستتحسن الأمور وتعود المقاهي الشعبية إلى أصولها المتواضعة، أم أننا سنعيش في عالمٍ حيث يصبح الاستمتاع بفنجان قهوة ونرجيلة في مقهى شعبي رفاهية مخفضة تتطلب تضحيات مالية هائلة؟ الوقت سيكشف الإجابة، ولكن حتى ذلك الحين، فلنستعد لشراء أسهم في شركات المقاهي الشعبية، فقد تكون هناك فرصة ذهبية في الأفق!